نحن جيل تعود على الخسارة. كبرنا في حضن الخوف، لذلك أصبحت لدينا عندما كبرنا ملامح المهزومين.
فجأة جئنا ونزلنا ضيوفا على عائلاتنا كثيرة الأطفال. بعضنا جاء بسبب خطأ جسيم في حساب دورة والدته الشهرية، وبعضنا الآخر جاء عن سبق إصرار وترصد.
جئنا ووجدنا قبلنا إخوانا لنا وأخوات، وانتظرنا أن يتركوا لنا أحذيتهم وملابسهم التي لم تعد على مقاساتهم. انتظرنا أن يتركوا لنا دفاترهم المستعملة وسلسلة مطالعة «إقرأ» التي سنتوارثها بالدور مثل ثروات ثمينة، لكي نتركها نحن أيضا للذين سيأتون بعدنا.
فنحن أبناء الفقراء لا يترك لنا الذين سبقونا في عائلاتنا مناصب في الحكومة ولا في الدولة، بقدر ما يتركون لنا ملابسهم الضيقة ودفاترهم المستعملة، وأحيانا أمراضهم التي نتوارثها أبا عن جد.
الأمهات يحملن بنا بانتظام كل سنة، والآباء يفتلون شواربهم الصفراء بسبب المرق والتبغ الرديء. يدمنون القيلولة بعد الأكل ونشرات المذياع الرسمية السخيفة، ويقولون عندما نطلق صرخة الحياة الأولى إن كل واحد منا ينزل من بطن أمه ينزل متأبطا خبزه. ونسوا أن أغلبنا عندما نزل من بطن أمه وكبر وأصبحت له شوارب ووجد نفسه بلا عمل، تأبط مكان الخبز سيفا ونزل إلى الشارع يعترض سبيل الناس.
أرسلونا إلى الفقيه ليحفظنا سور القرآن في الصباح، وفي المساء جداول الضرب والقسمة ومحفوظة «قولوا معانا يا اللي تحبونا تحيا مدرستي أمي الحنونة». وكم قست علينا المدرسة الحنونة عندما دخلنا إلى فصولها الباردة وأوقدنا فيها شموعنا بسبب مساءاتها الماطرة التي ينزل فيها الظلام بعد العصر.
تحملنا سوط الفقيه وبرودة الحصير ورائحة الصلصال في الشتاء ونحن نحك به ألواحنا الخشبية. وفي الصيف، تحمّلنا شمس غشت اللافحة وحاربنا الملل بالسباحة في برك آسنة مشكوك في نظافتها.
عندما داهمنا الجوع في البراري الفسيحة اقتلعنا جذور النباتات ومصصنا سيقانها الحامضة، وعندما عطشنا شربنا من ماء العين ذي الطعم الغريب، تلك العين التي اكتشفنا عندما كبرنا أنها كانت مخلوطة بقنوات الوادي الحار.
تعلمنا الصلاة لنصير أطفالا صالحين، وبدأنا نذهب إلى نافورة المسجد لنتوضأ ونرش المياه ونبلل ثياب بعضنا البعض، لاعبين غير عابئين بذنوبنا الصغيرة. طردنا الإمام الملفوف في جلابيبه الكثيرة، توعدنا بأن يغطس رؤوسنا الصغيرة في حوض المياه حتى نختنق واحدا واحدا. خفنا وهربنا من المسجد. ذهبنا إلى ضريح الولي الصالح نلهو حول قبوره المصبوغة بالجير الأبيض، هناك حيث يرتاح رفات الآباء والأجداد. نأكل التمر والتين المجفف الذي تجلبه النساء وتوزعنه على الفقراء الذين يتزاحمون أمام باب المقبرة. سرقنا شمع الولي الصالح وأضأنا به أزقتنا المظلمة التي يسرق موظفو البلدية الجشعون ميزانيات مصابيحها.
نهبنا السكر الذي تضعه النساء قرب قبر الولي الصالح، وأكلناه مع الخبز. الولي الصالح سيسامحنا لأنه يعرف أننا مجرد أطفال جائعين. عندما ننتهي من ضريح الولي الصالح نمر بمقبرة النصارى حيث القبور مزينة بصور أصحابها وبورود رخامية ملونة. ما أشد اختلاف قبورهم عن قبورنا، قبور المسلمين يكبر فوقها الشوك والعليق ويسكر حولها المشردون، وقبور النصارى مغطاة بأكاليل الورود.
أدخلونا إلى المدرسة الحكومية لنتعلم النحو والقواعد ودروس التاريخ، حيث جيوش البيزنطيين والرومان والوندال الذين مروا بالمغرب وتركوا قلاعهم وحصونهم والنقود التي سكوها بأسمائهم.
بدأنا نتهجى التلاوة الفرنسية حيث ترعى عنزة السيد «سوغان» والطفل الأسود «باليماكو» الذي يتسلق النخلة الباسقة.
تلعثمنا كثيرا قبل أن ننطق حروفنا الأولى بالفرنسية، «مينا جولي مينا ميكي جولي ميكي».
تبولنا في محبرات بعضنا البعض على سبيل اللهو. حفرنا عشرات الأمتار المربعة بحثا عن جذور تلك النبتة البرية التي عندما تحكها على قفا التلميذ يتحول من طفل وديع إلى بغل هائج.
مددنا أكفنا الصغيرة والمرتجفة للعصا، وعندما عذبنا معلمونا بالضرب نزلنا إلى الحقول نبحث عن تلك النبتة السحرية التي عندما تحكها فوق راحة يدك تصبح مستعدا لتحمل عصا المعلم بلا بكاء.
ومع ذلك آلمنا كل شيء. آلمونا وهم يضربوننا بينما نحن أمام باب السينما ننتظر «الأونطراكت».
ضربونا ونحن ننتظر ربع الساعة الأخير من الشوط الثاني لندخل إلى ملعب كرة القدم لنتفرج على آخر أنفاس المباراة التي كانت دائما تخسرها «الحسنية» قبل أن تهبط إلى أسفل سافلين.
ضربونا ونحن نتزاحم أمام باب المسبح البلدي في انتظار أن يمنحنا الحارس العشر دقائق الأخيرة لنغطس أجسادنا المحترقة من الحر في مياه نصفها بول ونصفها الآخر «جافيل» و«كلور».
لطالما أخرجونا من المدارس وجمعونا وفرقونا على طول الطرقات لكي نقف تحت الشمس في انتظار أن يمر وزير أو عامل. وعندما يصل وسط الزغاريد والتصفيقات يدس ورقة داخل ثقب في حائط صغير يسمونه حجر الأساس، يأمروننا أن نصفق فنصفق، يطلبون منا أن نلوح بالرايات فنلوح بالرايات. وفي المساء، نعود إلى أمهاتنا وعلى وجوهنا تباشير الحمى بسبب كل الوقت الذي قضيناه تحت الشمس.
علمونا أن الوطن هو الراية التي نقف أمامها كل صباح قبل الدخول إلى القسم لكي نردد «منبت الأحرار مشرق الأنوار»، ولم يشرحوا لنا لماذا كان أبناء الجنود، الذين كانوا يقاتلون من أجل الوطن في الصحراء، يأتون إلى المدرسة بثياب ممزقة ويصطفون أمام باب المطعم لكي يأخذوا نصيبهم من رغيف الخبز المعجون بقمح وكالة التعاون الأمريكية.
حقنونا في المدرسة بأدوية منظمة الصحة العالمية وحقن «البي سي جي» حتى لا ننقرض بسبب الجراثيم والأوبئة التي كانت تزورنا أكثر مما كان يزورنا موظفو الحكومة. وأفرغوا في عيوننا أطنانا من أنابيب «البوماضا» لمحاربة العمش، حتى ينقشع المستقبل المخيف أمامنا بوضوح.
كبرنا هكذا، بقسوة كبيرة وحنان أقل. كان علينا أن نكبر بمشقة، مثل نباتات وحشية في غابة بأشجار ضخمة تحجب عنها ضوء الشمس. تشبثنا بالأمل، ورفعنا رؤوسنا نحو الأعلى لنحصل على حصتنا من الضوء. وعندما أخرجنا رؤوسنا إلى العالم وتنفسنا الصعداء، وجدناهم مرة أخرى واقفين بسياطهم في انتظارنا.
ضربونا عندما طالبناهم بشغل، طردونا ونحن نقف أمام أبواب مكاتبهم الحكومية المكيفة.
طردونا عندما جئنا نطلب جوازات سفر لنتابع دراستنا في الخارج. أريناهم شهادات تسجيلنا في جامعات أوربا وأمريكا وعرضنا أمامهم نقطنا الجيدة التي حصلنا عليها بسهرنا الطويل. أريناها للحمير الذين لا شواهد لهم، فأخرجونا من مكاتبهم وطردونا بعد أن تذكروا نقط أبنائهم المدللين والكسالى ورتبهم المخجلة. ولكي يريحوا ضمائرهم المتعفنة نصحونا بالتعرف إلى بلادنا جيدا قبل الذهاب إلى بلدان الآخرين. الأنذال، ضيعوا مستقبل الآلاف منا بجرة قلم.
بقينا أخيرا هنا كما أرادوا، وفجأة فهمنا لماذا أرادونا أن نبقى معهم. لقد كانوا محتاجين إلى جيل كامل لكي يجربوا فيه حقدهم. حقنونا كل مساء بالمهدئات في نشرات الأخبار لكي لا ننفجر في وجوههم مثل بالونات هواء، وشرعوا يكذبون علينا في الحكومة والبرلمان. تناوبوا علينا بأحزابهم مثلما تتناوب عصابة من المنحرفين على امرأة وحيدة تعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. وعندما تعبوا منا رموا بنا إلى الشوارع وتركونا نقطع الطريق على بعضنا البعض بالسيوف الطويلة وشفرات الحلاقة وقنينات الماء الحارق.
تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون عن مصلحتنا ومستقبلنا.
تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون باسمنا في كل مكان.
تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يعترفون لنا بالحب كلما اقتربت الانتخابات.
الكذابون المحتالون المنافقون.
شخنا قبل الأوان بسببهم ونخرت عظامنا الأمراض المزمنة وطورنا في خلايانا جينة اليأس.
كرهونا في البلاد حتى أصبحنا نرى أن الحل الوحيد لكي لا نصاب بالجنون هو أن نجمع حقائبنا ونغادر، مثلما تغادر امرأة تعيسة بيت زوجها السكير الذي يحطم أضلاعها كل ليلة. نغادر كلنا ونتركهم وحدهم يكذبون ويصدقون أكاذيبهم. نحن فئران التجارب الذين لم يتركوا مخططا خماسيا أو عشريا إلا وجربوه فينا. والنتيجة هي ما نراه الآن، جيل ضائع يسير نحو الخيبات بخطوات ثقيلة.
هزمونا بالضربة القاضية، ومع ذلك لا زلنا نترنح فوق حلبة الوطن ونرفض أن نسقط ليرفع الحكم ذراعه الغليظة ويمنحهم الكأس التي سيشربون فيها نخب هزيمتنا.
هزمونا غير أننا مازلنا واقفين نبتسم في وجوههم بسخرية لكي يفقدوا لذة النصر.
هزمونا في هذه الجولة، غير أنهم نسوا أن المقابلة لم تنته بعد وأن أمامنا العمر كله للاستعداد للجولات القادمة.